مقالات

السودان وجنوب السودان.. متى تدرك الخرطوم أن عهد الجلابي قد انتهى؟

———————————————————————-
‎بقلم/ عمار نجم الدين

‎عندما انفصل جنوب السودان عن السودان في عام 2011، ظن كثيرون أن الخرطوم/ بورسودان ستبدأ في إعادة ترتيب أولوياتها، وأنها ستعترف أخيرًا بالواقع الجديد، لكن يبدو أن ساكني القصر الرئاسي في الخرطوم يعانون من حالة إنكار جماعي. فبعد أكثر من عقد على استقلال الجنوب، لا تزال النخبة السياسية السودانية تتعامل مع جوبا وكأنها “إقليم متمرد”، وليس دولة ذات سيادة.
‎في خضم أزماته المتلاحقة، يعيد السودان اليوم تشغيل أسطوانته القديمة، محاولًا تصدير مشكلاته الداخلية إلى الخارج، وهذه المرة عبر اتهام جنوب السودان بتغذية الصراع في السودان. التصريحات الأخيرة لمساعد القائد العام للجيش السوداني، الفريق ياسر العطا، والتي زعم فيها أن 65% من قوات الدعم السريع تتكون من مواطنين جنوب سودانيين، ليست إلا حلقة جديدة في مسلسل طويل من محاولات الخرطوم للتملص من مسؤولية أزمتها الداخلية.
‎وزارة الخارجية في جوبا ردت بقوة على هذه الادعاءات، كاشفة عن تورط السودان ذاته في تجنيد مواطنين جنوب سودانيين ضمن صفوف جيشه وميليشياته المختلفة. فهل هذه الحقائق تعني أن السودان يمارس “الإسقاط السياسي” لتبرير إخفاقاته العسكرية؟

الحقيقة أن الخرطوم لم تتخلّ يومًا عن نظرتها الاستعمارية تجاه الجنوب. فقبل الاستقلال، كان الجنوبيون يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، وعند الانفصال، كان من المفترض أن ينتهي هذا النهج، لكن السودان الرسمي لا يزال يرى في الجنوب ساحة نفوذ يجب إخضاعها، وهو ما يفسر الحملات الممنهجة ضد جوبا في الإعلام السوداني، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تستخدم الخرطوم كل الوسائل لمحاولة التأثير على سياسات الجنوب وتحالفاته.

‎هذه النظرة الاستعلائية لا تختلف كثيرًا عن تعامل القاهرة مع الخرطوم نفسها، حيث لا يزال السودان – رغم استقلاله الرسمي – تحت تأثير استراتيجي وسياسي و شبه استعمار مصري، يجعله في كثير من الأحيان غير قادر على اتخاذ قرارات سيادية مستقلة. فإذا كانت الخرطوم نفسها لم تنل استقلالها الكامل بعد، فكيف تريد فرض سيادتها على جوبا؟
‎عندما حارب شعب جنوب السودان لعقود طويلة لنيل استقلاله، لم يكن يسعى فقط إلى تغيير العلم، بل إلى تقرير مصيره السياسي والاقتصادي بحرية. الاستقلال لا يُمنح، بل يُنتزع بالنضال، وهو ما فعله الجنوبيون، غير عابئين بجرائم التصفية العرقية التي مورست ضدهم.

‎أما اليوم، فالسودان يشن حربًا دبلوماسية وإعلامية ضد جنوب السودان، محاولًا تصويره كدولة “غير ناضجة” تحتاج إلى توجيه وإشراف. هذه العقلية تُظهر قصورًا في فهم الواقع الجديد، فجنوب السودان هو من يحدد تحالفاته، وليس الخرطوم، وأي محاولة لفرض وصاية عليه لن تكون إلا تكرارًا فاشلًا لنماذج استعمارية سابقة.
‎من يريد الحديث عن التدخلات الخارجية في السودان عليه أن يبدأ بالنظر في المرآة. فالسودان لم يحقق استقلاله الحقيقي بعد، ولا يزال يدور في فلك قوى إقليمية تتحكم في قراراته، بينما يسعى إلى فرض نفس النموذج على جنوب السودان. لكن الفرق أن جوبا تعلم جيدًا معنى الاستقلال، ولن تسمح بأن تكون “حديقة خلفية” لدولة لم تستطع حتى الآن تحديد هويتها السياسية.

‎في النهاية، على الخرطوم أن تفهم أن جنوب السودان ليس قضية داخلية سودانية، بل هو دولة مستقلة، تقرر مصيرها بنفسها، وليس بقرارات تأتي من مكاتب الساسة في الخرطوم / بورسودان أو عبر حملات مشبوهة على وسائل التواصل الاجتماعي. أما الاستمرار في سياسة الإنكار، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة السياسية والإقليمية للسودان، الذي يحتاج إلى ترتيب بيته الداخلي قبل أن يوزع دروس السيادة على الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى