بقلم : فيصل ابكر شرف

الكل ضد الكل
//
يا صديقي، يا من يقرأ حروفي هذه، يا من يحمل مثلي عبء هذا الوجع العميق…
//_
الامر يتجاوز مجرد اخفاقات السياسة المعهودة. ما نعيشه هو اغتيال يومي لشيء ثمين في ارواحنا. موت يزحف في داخلنا بهدوء قاتل. ربما مات الامل، او فقدنا القدرة على الفعل، او انطفأت فينا الرغبة في اي غد غير هذا الركام. ومن المسؤول عن هذا الفقدان الداخلي؟ ننظر حولنا، فتشير الاصابع، ويصرخ الواقع بوجوه الذين تناوبوا على حكمنا سبعين خريفا: ابناء النخب النيلية التي ورثت سلطة، فباعت اكثر مما بنت، ومن سار دربها.
اتقنوا فن القول، وبرعوا في حرفة اللوم. يكثرون من اتهام العالم كله، وكأنهم في عليائهم لا تطالهم يد الخطا. يرتدون ثوب البراءة الزائف، والحقيقة كالخنجر في الصدر: هم، وسياستهم التي عمرها سبعون عاما، هم الكارثة التي حلت بنا. سياستهم هذه، يا صديقي، هي التي رمت بذور المناطقية والقبلية السامة في ارضنا الطيبة. هي التي استغلت الدين مطية لاهداف دنيوية خسيسة. وهي التي دجنت المؤسسات وجعلتها اداة في ايديهم، لا سورا للوطن.
الداء المستشري ليس خارج اسوارنا فقط. هو في قبلية صارت اقوى من خيط وطن يتمزق امام اعيننا. في عسكريين وساسة رسخوا هذا الداء. في عقول نيرة حملت شهادات عليا، دكتوراه وماجستير، لكنها ما زالت اسيرة لداء القبيلة المقيت. في مفكرين نجلهم، لكنهم يرتعدون خوفا من كلمة شيخ قبلي قد لا يرى ابعد من انفه. كيف نخطو نحو نور، ونحن مكبلون بسلاسل جهل قبلي صنعناها بايدينا ورسختها فينا سياسة نخب ما رحمت؟
ولكن الحقيقة الاكثر مرارة، يا صديقي، ان الداء فينا ايضا. في هذا الاستعداد العجيب للكراهية، للعنصرية القبلية الفظيعة التي تمزقنا ونحن نبتسم بغباء. في هذا الانصياع الاعمى للانتماءات الضيقة على حساب الوطن الذي يضيع. نذهب لبلاد العقل والنظام، لبلاد الديمقراطية والتطور، فماذا نعيد معنا؟ نعيد بذور الحقد لنزرعها في تراب وطننا الدامي. هذه الحرب لم تعلمنا شيئا، اثبتت ان الموت يسكن في دواخلنا.
لقد وصل الانقسام حدا لا يصدق. تجد من سكنت معه واكلت معه وترعرعتما سويا، تقاسمتم لقمة العيش وذكريات الطفولة والشباب، ثم تاتي معه في اختلاف سياسي، اي اختلاف كان، فتتهمه بانه ليس سودانيا، وانت تدعي انك وحدك السوداني الاصيل. وهكذا تدور الدائرة المؤلمة، ياتي هو بدوره ليتهمك بانك انت من لست سودانيا او انك عميل. هذا يا صديقي هو نتاج مباشر لسياسة النخب النيلية التي فرقتنا حتى بين جدران البيت الواحد وقلوب الاصدقاء والاخوة.
لقد وصل بنا الحال يا صديقي، الى ما لا يتصوره عقل ولا يقبله قلب ولا تراه عين الا وكادت تدمي. ترى بام عينك السوداني يذبح اخاه السوداني بكل وحشية وبرود، والادهى والامر، ان ترى من حولهما يصفق ويضحك ويستمتع بالمشهد. نعم، يصفقون ويضحكون على منظر الدم يسيل من ابن وطنهم، من اخيهم في الانسانية. هذا ليس مشهدا عاديا، هذا هو النتاج المرير، هذا هو الثمر الفاسد لتلك السياسات، ولسبعين عاما من الحكم الذي زرع فينا الحقد، وجعل منا وحوشا يقتل بعضها بعضا ثم يضحك على الجثث.
نحن نعيش كابوسا، يا صديقي. في موديل خرب يتماهى مع الخراب، ويتهاوى كل يوم. يتاجر فيه الجميع بكل شيء، بما احيانا، وبما اماتنا. يتاجرون بالارض، بالمستقبل، بالارواح، حتى ببقايا الامل التي كادت تنطفئ. يتاجرون بما اماتنا كشعب من قيم واحلام. يتاجرون بارواح تنزف، باحلام تدفن.
لك الله يا وطني المذبوح بايدي ابنائه! لك الله يا شعبا يتنفس الموت كل ساعة، ويشرب مرارة الخيبة كل لحظة! متى، يا رباه، متى نستفيق من غيبوبتنا القبلية والعنصرية التي حولتنا الى وحوش نفترس بعضنا البعض؟ متى نرى ان الداء ينبع من دواخلنا اولا، قبل ان نوجه اصابع الاتهام للاخرين؟ لعلنا نجد طريقا للنجاة، طريقا يعيد لارواحنا شيئا من الحياة، قبل ان نموت تماما، نموت في الارواح والاجساد معا، وتبقى الذكرى وحدها تنظر الينا بعين دامعة!
الجمعة 2مايو
2025